فدوى طوقان في ضيافة شعراء المقاومة | أرشيف

فدوى طوقان (1917-2003)

 

العنوان الأصليّ: «من أصداء الاحتلال الصهيونيّ للضفّة الغربيّة والقطاع».

المصدر: «مجلّة الدوحة».

الكاتب (ة): فدوى طوقان. 

زمن النشر: 1 كانون الثاني 1985. 

 


 

بعد هزيمة حزيران 1967، ومن خلال الانهيار التامّ للسقف الفلسطينيّ، قام الجسر بين شقيّ البيت المشطور، وضمن هذا الواقع الجديد المشؤوم، واقع الاحتلال الصهيونيّ للضفّة والقطاع، أخذ أفراد العائلة الفلسطينيّة يسعون عبر ذلك الجسر إلى لقاء بعضهم بعضًا، وكانت ابتسامات اللقاء آنئذ تندى بدموع الانكسار، وكانت القلوب تنزف تحت الراية المطعونة بخنجر الأيّام الستّة.

منذ اليوم الأوّل للاحتلال التزمت بيتي ولم أبرحه قبل مرور شهرين أو أكثر على دخول الجيش الإسرائيليّ إلى نابلس. كنت أحسّ بضربات قلبي تتسارع كلّما فكّرت بالنزول إلى المركز التجاريّ لشراء بعض ما أحتاج إليه، لقد كان مجرّد تصوّري للواقع المتجسّد بوجود الجنود بأسلحتهم ودبّاباتهم وأنصاف مجنزراتهم يهزّ كياني ويعطّل قدرتي على الحركة.

خلال هذه الأيّام الأولى من الاحتلال شرع يَفِدُ عليّ بعض الزائرين من الشباب العربيّ المقيمين في حيفا، ويافا، والناصرة، وعكّا، وسواها من المدن والقرى العربيّة ممّن لهم اهتمام بالشعر والأدب. وكان وجه القاصّ توفيق فيّاض من أوائل الوجوه الّتي هلّت عليّ في ذلك الحين، وانعقدت بيني وبينهم مودّة وصداقة. كان يقاسم حينئذ محمود درويش وسميح القاسم السكن في بيت واحد، وكان ثلاثتهم يتقاسمون الجوع والحياة الصعبة. كان حديثه عنهما يشوّقني، فقد كانا مع توفيق زيّاد وسالم جبران قد أصبحوا إلينا في العالم العربيّ رموزًا وطنيّة تجسّد المقاومة، والرفض، والصمود، والتمسّك بالهويّة القوميّة وسط عالم وواقع رهيب يهدّدهم ويهدّد الأقلّيّة العربيّة في إسرائيل بالاندثار والفناء.

ولقد كان توفيق فيّاض يوافيني في كلّ زيارة بجريدة «الاتّحاد»، وبمجلّتيّ «الجديد» و«الغد»، وكانت ولا تزال من الصحف المحظور توزيعها في الضفّة والقطاع. من خلال هذه الصحف الواعية تعرّفت على إميل حبيبي والدكتور إميل توما والأستاذ صليبا خميس وسواهم من رسل القوّة وأعداء الضعف والانهيار، أولئك المعلّمون الكبار حاملو الشرارة من النار المقدّسة والمبشّرون بانتصار الحياة.

في يوم من أيّام منتصف أيلول عام 1967، أرسلت إلى جريدة «الاتّحاد» بواسطة توفيق فيّاض قصائدي الخمس الأولى: «مدينتي الحزينة»، «الطاعون»، «إلى صديق غريب»، «الطوفان والشجرة»، و«حيّ أبدًا». وقد نُشِرَت هذه القصائد في جريدة «الاتّحاد بتاريخ 22 أيلول 1967.

في النهاية، كان لا بدّ لي من أن ألمّ نفسي وانتزعها من الانهيار، والدمار، والغربة، والاغتراب في الذات الوطن. وقد انتزعتها فعلًا ويمّمت وجهي شطر حيفا لألتقي بهم وفي يدي هديّتي إليهم، قصيدتي «لن أبكي».

وفي بيت عصام عبّاسي والصديقة سلمى ماضي بحيفا كان لقائي الأوّل بمحمود درويش. قال محمود وهو يضحك:"ها نحن نلتقي يا فدوى، وقد أصبحت أخشى من مجيء يوم تأتي فيه إلينا أمّ كلثوم ونزار قباني"، لم تخدعني ضحكته، فقد كان وراءها دموع غير منظورة.

حين انتهيت من إنشاد قصيدتي، قال:"نحن مدينون لك منذ اليوم بقصيدة".

وسألتني الصديقة سلمى ماضي إنشاد قصيدة أخرى فتلوت قصيدتي «الفدائيّ والأرض»، الّتي نظمتها على إثر استشهاد البطل الفلسطينيّ مازن أبو غزالة في «معركة طوباس»، الّتي قامت بين رجال المقاومة والجيش الإسرائيليّ بعد مرور شهور قليلة على الاحتلال الصهيونيّ للضفّة والقطاع.

 

سميح القاسم (1939-2014)، فدوى طوقان، محمود درويش (1941-2008)

 

منذ ذلك اليوم، يوم زيارتي الأولى لحيفا، تكرّرت زياراتي لحيفا والناصرة، وأذكر أنّ سميح القاسم كان في تلك الفترة محكومًا بالإقامة الجبريّة في البيت، فكنّا نذهب إليه لقضاء بعض الأمسيات في غرفته الصغيرة المتواضعة.

وهكذا تمّ التصاقي بمحرّري وكتّاب جريدة «الاتّحاد»، ومجلّتيّ «الجديد» و«الغد». لقد كانوا بالنسبة إليّ قطرات الضوء في ليل الاحتلال البهيم، فبين أولئك الكتّاب والشعراء الّذين كانت السياسة والانتماء الحزبيّ عملهم من أجل الحياة، ومن أجل الوطن، ومن أجل الإنسان؛ بين أولئك وجدت نفسي، ومعهم وجد التحوّل النوعيّ طريقه إلى نفسي وتفكيري وكأنّما لمستني كفّ المعجزة. كنت أعود من لدنّهم بعد كلّ لقاء وفي نفسي ترتعش المشاعر المعافاة كارتعاش الأزهار.

في واحدة من الأماسي في بيت محمود درويش، قرأ علينا شاعر الشعراء مسوّدة رباعيّاته المهداة إليّ: «يوميّات جرح فلسطينيّ»، ولعلّ هذا هو المكان المناسب لأذكر أنّ محمودًا حين قال في الرباعيّة الثانية من هذه القصيدة:" لم نكن قبل حزيران كأفراخ الحمام/ ولذا لم يتفتّت حبّنا بين السلاسل/ نحن يا أختاه من عشرين عام/ نحن لا نكتب أشعارًا ولكنّا نقاتل". إنّما كان يشير إلى قصيدتي الّتي نشرت قبل ذلك في جريدة «الاتّحاد»، وفيها أخاطب صديقًا حالت الهزيمة الحزيرانيّة دون لقائه:

لو أنّ الهزيمة لا تمطر الآن أرض بلادي

حجارة خزي وعار

ولو أنّ قلبي الّذي تعرف

كما كان بالأمس لا ترعف

دماه على خنجر الانكسار

ولو أنّني يا صديقي كأمس

أدلّ بقومي وداري وعزّي

لكنت إلى جنبك الآن، عند شواطئ حبّك أُرْسي

سفينة عمري

لكنّا كفرخيّ حمام"

 

ولعلّ من الجدير بالذكر أيضًا أنّ المقاطع 8، 9، 10، 11، من راعيّات «جرح فلسطينيّ»، تشير إلى البطل الشهيد مازن أبو غزالة والّذي أنشدت قصيدتي فيه «الفدائيّ والأرض» أمام محمود في لقائنا الأوّل.

 

***

 

ذات مساء تلقّيت مكالمة هاتفيّة من محمود، وكان آنذاك رئيس تحرير مجلّة «الجديد»، سألني فيها المساهمة في الكتابة من أجل باب جديد استحدثه في المجلّة عنوانه:«صفحات من مفكّرة». قال محمود إنّه من هذا الباب يتسلّل إلى يوميّات الكتّاب والشعراء الخاصّة، ويسرق منها صفحات يهديها إلى القرّاء، ولكنّ عمليّة التسلّل تجري بأسلوب جديد؛ إذ يعلن محمود لصاحب اليوميّات المرشّحة للسرقة أنّ يوميّاته معرّضة للفضيحة، وما عليه لكي ينجو من الفضيحة إلّا أن يتبرّع بصفحات مختارة من يوميّاته.

بالطبع استجب لرغبة محمود، ونشرت صفحات من مفكّرتي في أحد أعداد مجلّة «الجديد». ومن المناسب أن أذكر الآن أنّ تلك الصفحات الّتي نشرت آنذاك في باب:«صفحات من مفكّرة»، كانت النواة الّتي انبثق عنها في ما بعد كتابي «رحلة صعبة – رحلة جبليّة»، والّذي نَشَرْتُ منه عدّة حلقات في مجلّة «الجديد» ما بين عاميّ 1977-1978 حين كان يرأس تحريرها سميح القاسم.

 

***

 

بعد هزيمة حزيران بعدّة شهور زارني واحد من جماعة «الكويكرز»، وكان يقيم في قبرص بحكم عمله. خلال حديثي معه عن الواقع الجديد الّذي نكابده في الضفّة والقطاع، أشرت إلى الحصار الثقافيّ الّذي قطعني عن مواكبة الفكر والأدب العربيّ الحديث، والّذي حرمني بالتالي من الاطّلاع على المجلّات الأدبيّة الّتي تصدر في بيروت ومصر وسواهما من البلاد العربيّة. فتعهّد ذلك الإنسان الكريم بتزويدي بالمجلّات الّتي أفضّلها، فاكتفيت بذكر مجلّتين هما «الآداب»، مجلّة الدكتور سهيل إدريس، ومجلّة «مواقف» الّتي كان يصدرها الشاعر الصديق أدونيس. وهكذا صرت أتلقّى هاتين المجلّتين بانتظار عبر «بريد خاصّ». وكان يسعدني جدًّا أن أوافي محمود وسميح بهاتين المجلّتين بعد مطالعتهما. ولقد كان محمود مفتونًا بأدونيس وبمجلّته «مواقف» إلى حدّ الإصرار على الاحتفاظ بالمجلّة لنفسه، وكنت أتنازل له مع إحساس هو مزيج من الغبطة والأسف.

 

***

 

في أيلول عام 1973 وجّهتُ إلى سميح القاسم دعوة باسم «نادي الفتيات» ليتحفنا بأمسية شعريّة في نابلس. وفي رسالته المتضمّنة استجابته للدعوة قال سميح:"رغم كوني مدين لك بعدّة مجلّات، فإنّني أجد في نفسي المزيد من الجرأة لأطلب المزيد من المجلّات والصحف. وحتّى لو أنت فقدت بعض هذه المجلّات، ويشير هنا إلى احتفاظه ببعض مجلّاتي لديه، فلن تخرب الدنيا أكثر ممّا هي عليه من خراب. أنا فاقد وطنًا، فما أسفي على فقدان زهرة؟ ثمّ ألف شكر على قصيدة «أريش فريد» الّتي بَعَثْتِ بها لتنشر في «الجديد»، فهو شاعر يهوديّ نمساويّ "يحبّ" إسرائيل كما نحبّها نحن! سأنشر القصيدة في «الجديد» لأنّها شهادة شاهد من أهله.

 

***

 

في لقائي بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر رحمه الله، وكان ذلك في أواخر شهر كانون الأوّل عام 1968، حدّثته عن أولئك المتجذّرين في أرضهم منذ عام 1948 رغم كلّ تحدّيات الحركة الصهيونيّة الّتي تواجههم، لا سيّما المحاولات المبذولة لترسيخ العدميّة القوميّة في وجدان الأقلّيّة العربيّة في إسرائيل. كما حدّثته عن معاناة المثقّفين الوطنيّين وما يكابدونه من الاعتقالات وأوامر الإقامة الجبريّة الّتي تحدّد تجوّلهم في وطنهم، والّتي أصبحت جزءًا من حياتهم اليوميّة بسبب رسالتهم الكفاحيّة الّتي يحملونها ويبشّرون بمضمونها الوطنيّ والإنسانيّ في الوسط العربيّ هناك. وقد غمرني الشعور بالسعادة حين سمعت من «إذاعة القاهرة» التحيّة الحارّة الّتي وجّهها جمال عبد الناصر بعد ذلك اللقاء إلى العرب الصامدين تحت جناحيّ الخفّاش الكبير.

بالرغم من كون سلطات الاحتلال تمنعني دائمًا من الاشتراك في الندوات الوطنيّة والأدبيّة في عكّا والناصرة وسواهما من بلدان أرضنا المحتلّة منذ عام 1948، إلّا أنّني تمكّنت من التسلّل إلى بعض الاحتفالات الّتي تقيمها في الناصرة كلّ عام «حركة النساء الديمقراطيّات». وفي الاحتفال الّذي أقامته «النساء الديمقراطيّات» بمناسبة النصر الّذي حقّقه شعب مدينة الناصرة بانتخاب بلديّة ديمقراطيّة، ألقيت قصيدة بهذه المناسبة جاء فيها:

أنا اليوم جئت إلى مهرجانك أشرب من كأس هذا الفرح

لأنّي، لأنّي نسيت الفرح

لأنّي على طول تسع سنين من القحط ما ذقت طعم الفرح،

أتيت لكي أستردّ اليقين بأنّ الحياة تظلّ سخيّة لكي أستمدّ لقلبي منك وريدًا يضخّ دماءً جديدة،

لكيّ أستردّ لنفسي رؤيا تعافت،

وحلمًا بدنيا سعيدة.

 

والخطاب هنا موجّه إلى المرأة العربيّة الديمقراطيّة في الناصرة، وقد نشرت القصيدة في جريدة «الاتّحاد» الّتي تصدر في حيفا.

 

***

 

لا أزال أذكر الحملة الّتي شنّها بعض المزاودين في العالم العربيّ على الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم بسبب اشتراكهما مع الوفد الإسرائيليّ في «مهرجان صوفيا للشباب». كنت في عمّان أتصفّح ذات صباح جريدة «الأنوار» اللبنانيّة وأنا أحتسي القهوة في مقهى «الديبلومات»، ووجدتني أُصْعَقُ وأُذْهَلُ أمام مقال مزدحم بتهم وافتراءات موجّهة ضدّ الشاعرين، وكان واضحًأ أنّ القصد من ذلك المقال هو تحطيم هذين الرمزين الوطنيّين وتشويه صورتيهما في الوجدان العربيّ.

قمت على الفور واشتريت من مكتبة مجاورة للمقهى بعض أوراق الكتابة وعدت إلى المقهى لأكتب من هناك رسالة إلى غسّان كنفاني رحمه الله، وكان آنذاك محرّرًا في جريدة «الأنوار»، ضمّنتها عتبي الشديد على الجريدة لنشرها مثل ذلك المقال الخطير والمغرض، ثمّ حدّثته عمّا يعانيه الشاعران في وطنهما بسبب مواقفهما الملتزمة، ومقاومتهما لسمك القرش المفترس في ما هما يكابدان تجربة اللجوء والاغتراب على أرض الوطن المسروق. قلت في رسالتي:"أنت يا غسّان أوّل من عرّفنا بشعراء المقاومة الرافضين، وأوّل من علّمنا تقديس أولئك الّذين يقاتلون العدوّ الصهيونيّ الشرس من من جبهة الكتابة، فكيف تسمح بنشر مثل ذلك المقال؟ إلخ...". وحين زرت غسّان في جريدة «الأنوار» ببيروت عبّر لي عن حقيقة كونه لم يطّلع على المقال قبل ظهوره في الصحيفة، ولولا ذلك لحال دون نشره، كما حدّثني عن تمزيقه لمقال آخر شبيه بالأوّل كانت قد بَعَثَتْ به إلى «الأنوار» فتاة فلسطينيّة تحاول كتابة الشعر، وكانت قد غادرت إسرائيل حديثًا لتقيم في بيروت.

 

***

 

هذه بعض جوانب تجربتي الخاصّة بالنسبة إلى التفاعل الحيويّ المثمر الّذي ظلّ محافظًا على استمراريّته من جرّاء التحام كتّاب الضفّة والقطاع بالكتّاب الفلسطينيّين المقيمين في الجزء المحتلّ من فلسطين منذ عام 1948، ومن هذا التفاعل ستظلّ تتكوّن قطرات الضوء في ليل الاحتلال، وسوف يستمرّ العمل معًا لإعادة تركيب ما هو كائن انطلاقًا من الحلم بما سيكون.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.